بقلم: خالد العوض
يرى عالم النفس الشهير جيروم برونر والذي قضى عمره منذ مطلع القرن العشرين في دراسة المناهج وطرق التدريس (توفي 2016) أنه كان لابد من الاهتمام بالعلوم الاجتماعية والتاريخ والأدب التي أصبحت كما يسميها برونر “الموضوعات الأقرب إلى الحياة، الأقرب إلى الطريقة التي نعيشها”، وقد وضع لها مسميات أخرى هي تدريس الحاضر present (الدراسات الاجتماعية) ، والماضي past (التاريخ) ، والممكن possible (الأدب)؛ أو ما أطلق عليها الباءات الثلاث العظيمة 3P’s .
هذا الاهتمام المتزايد بالعلوم والرياضيات على حساب المواد الانسانية هو ما جعل برونر يتساءل عن تعلّق المسؤولين عن التربية واهتمامهم المتزايد بتحسين سجلّ الطلاب في العلوم والرياضيات وإغفال تعليم الطلاب التغيرات السياسية والاقتصادية التي يشهدها عالمنا الثوري:
“مالذي يجعل الانسان يخاطر بحياته في سبيل الحرية في ميدان تيانامين في بكين أو في شرق برلين أو في براغ أو في بوخاريست. إنني لست ضد تزويد الأمة بعلماء بارعين ومهرة في الرياضيات والعلوم بحيث نستطيع التفوق على اليابان وأوروبا الجديدة في أسواق العالم، كما لو كان هذا الهدف هو ما يجذب المعلمين والطلاب ويزيد من دافعيتهم. إننا ننسى، وهذا ما يهدّدنا بالخطر، أن التقدّم الضخم في أوروبا الشرقية (والذي سيحدث أيضاً قريباً في جنوب أفريقيا والصين) لم يقدْه علماء الرياضيات والعلوم (رغم وجودهم) ، بل قاده كتّاب المسرح والشعراء والفلاسفة.”
في حديثه عن أهمية السرد أو القصص كجانب مهم في نظريته الثقافية للتربية وأهميته للمتعلم في بناء المعرفة، يذكر برونر طريقتين ينظم فيهما الإنسان ويدير معرفته بالعالم إحداهما تتعلق بالتعامل مع الأشياء المادية ويمكن تسميتها بالتفكير المنطقي العلمي logical-scientific ؛ أما الأخرى فهي خاصة بالتعامل مع البشر ومشكلاتهم ويمكن تسميتها بالتفكير السردي أو القصصي narrative . الطريقة الثانية، كما يراها برونر، هي الأكثر مناسبة في التربية ، ليس فقط في المواد الإنسانية كالأدب والعلوم الاجتماعية وإنما أيضاً في تدريس العلوم والرياضيات لأننا، كما يقول، “أخطأنا في عزل العلوم عن السرد الثقافي”، وتبعاً لذلك يجب على أي نظام تعليمي أن يساعد الأطفال أن يجدوا أنفسهم ويشكّلوا هوياتهم في الثقافة التي يعيشون بها؛ لأن الثقافة محلية وليست مستعارة أو مستوردة ومن دون هذه الهوية المحلية فلن يتمكنوا من الوصول إلى المعنى وسيتعثّرون قبل ان يصلوا إليه والوسيلة المناسبة لتحقيق هذا هي من خلال التفكير السردي أو القصصي الذي يستخدمه الفرد في بناء هويته وإيجاد مكان له في الثقافة التي يعيش بها، ومهمة المدرسة في هذا الجانب هي غرس هذا النوع من التفكير في نفوس الطلاب وتنميته وتطويره والتوقف عن إغفال أهميته وتهميشه.
يدعو برونر إلى الاهتمام بالسرد أو القصة ليس فقط في العلوم الإنسانية فحسب بل في المواد العلمية كالرياضيات والفيزياء ويقترح تحويل الجهود التي يبذلها علماء الرياضيات والعلوم إلى شكل سردي أو قصصي أو معينات سردية بحيث يكون التعليم معنياً بالعمليات الحية التي تصنع العلم بدلاً من كونه تقريراً عن العلم الجاهز كما يُعرض في الكتب الدراسية والأدلة.
ولهذا يستخدم العلماء كل أشكال المعينات والحدس والقصة والمجاز لمساعدتهم في الوصول إلى اكتشاف المعرفة، فعالم الفيزياء نيلز بور Niels Bohr توصّل إلى فكرة التكامل complementarity في الفيزياء والتي تقول أنه “لا يمكن تحديد موقع الجزيء وسرعته معاً في وقت واحد” عن طريق قصة ابنه الذي سرق لعبة صغيرة من محل قريب ثم اعترف بهذه السرقة لوالده بعد أن شعر بالذنب. تأثّر الوالد بندم ابنه واعترافه بالذنب من جهة، وتألّم كثيراً من الإساءة التي اقترفها ابنه ومن فعله المشين من جهة أخرى حيث قال: ” لقد صُدمت بواقع أنني لم أكن أستطيع أن أفكر بابني في ضوء الحب والعدالة معاً.” هذه القصة، كما يرويها برونر، ساعدت هذا العالم على التفكير بأنه لا يمكن أن تنظر في الوقت نفسه إلى موقع جزيء ما بصفته ثابتاً في موضع معين ومتحركاً بسرعة في موضع آخر فكان وضع القانون سهلاً بالنسبة له لأن التقاط السردية المناسبة أو القصة الصحيحة هو الجزء الصعب في مثل هذا الاكتشاف.