قصة قصيرة بقلم خالد العوض*
-1-
تتسارع نبضات القلب إلى الدرجة التي أتابع فيها الضربات في صدري كما لو كانت صوت طرْق قوي على بابٍ خشبي أو صوت دفٍٍّ عتيق بين يدي ضارب محترف. لا أدري كيف استدعت مخيلتي صوت طارق ظالم جاء آخر الليل ليقبض على شخص بريء لا حول له ولا قوة في تهمة ظالمة دبّرها له شخص نافذ ومتسلّط. أحسّ أحياناً بكريات من العرق تتشكّل في جبيني كلما جاء صوت ذلك الطارق العنيف. تزداد مخاوفي من هذا الزائر الثقيل الذي لا يأتي إلا عندما أكون في أضعف حالاتي. تعوّدت الأمر وتكيّفت معه كلما جاء ليزورني في الهزيع الأخير من الليل أو عندما تزداد كآبتي من جرّاء سماعي لكلمات ثقيلة في موقف ثقيل قد لا يكون لي أدنى مسؤولية فيه.
أصبحت أقبل هذا الأمر وأصبحت أعرف كيف أتعامل معه. لنقل مثلاً أن شخصاً ما عزيزاً لدي ، على سبيل المثال لا الحصر ، عبّر لي عن بؤس حياته وعن بؤس المجتمع الذي يعيش فيه كما يفعل أي إنسان في مجلس ما. عندما أذهب إلى فراشي وعندما ينام العالم وتسكن حركة خلاياي وأتذكّر كم هو صحيح وواقعي ما يقوله ذلك العزيز ينعكس ذلك على حالتي فيبدأ ذلك الطرق العنيف على صدري فأحس بكل ذرة من جسمي كما لو كانت ترقص مع تلك الضربات المتتالية. لا أحس بأي نوع من الألم المبرح أو ذلك النوع الذي تشعر به عندما تجرح يديك أو قدميك فيسيل الدم منهما. أشعر أيضاً بنضيحٍ بسيط لحبات عرق على جبيني يخف تدريجياً كلما تفهّمت الأمر وعرفت الموقف. لم تعد تخيفني تلك الضربات فقد تآلفت معها وأشتاق إليها كلما غابت عني لفترات أراها طويلة. بدأت أسيطر على الموقف تدريجياً وأتحكّم به إلى الدرجة التي فكّرت فيها بالاستغناء عن زيارة الطبيب ، وهو ما حصل بالفعل.
ماطلت كثيراً في الدخول إلى المستشفى التخصصي لإصلاح تلك الضربات. كان الأمر يتطلّب تدخلاً عاجلاً كما قال لي الطبيب رغم أني أبدو من الخارج إنساناً عادياً لا يظهر عليه أي اختلاف عن الآخرين. الاختلاف كان فقط في القلب الذي لا أراه داخل صدري. بعضهم يقول لي : أنت مختلف. أنت طيّب القلب . لا أذكر أنني آذيت أحداً . كما أنني لا أكره أحداً مهما كان ذلك الأحد وغْداً وسيء القلب. الأمر بسيط ، كما يقول لي الطبيب . نحتاج أن نفتح قلبك لنرى. صمامان اثنان فقط بحاجة إلى تغيير، وصمام واحد بحاجة إلى تعديل أو تقويم. كم بقي من صمام إذن ؟ وهل ينفع معي صمام معدني؟ ومن سيقوم بتركيبه؟ وكيف سيكون مثل الصمام الذي خلقه الله سبحانه وتعالى؟ كم أحب الصمام الذي خلقه الله مهما كان عليلاً !
في الموعد الأول أخبرت الطبيب أن الموعد يتعارض مع شهر رمضان وأنا أريد أن أتفرغ للعبادة بعيداً عن ردهات المستشفى وحجراته الضيقة. تأجّل الموعد إلى ما بعد رمضان. جاء الموعد الثاني.اتصلت بالمستشفى لأستفسر عن مدى إمكانية الدخول. فرحت فرحاً شديداً عندما أخبروني مرةً بعدم تواجد الطبيب ومرةً بعدم توفّر سرير. وضعوني في قائمة الانتظار وسيتصلون بي بمجرد توفر الطبيب والسرير.
طال انتظاري لمدة شهرين. ليس هناك أكثر إيلاماً من الانتظار. غابت الضربات عن صدري فغدوت أستمتع بحياتي بشكل أفضل غير أن آلام الكآبة الخفية تقتلني عندما أعرف أنني بانتظار مكالمة غير متوقعة تطلب مني الحضور فوراً. أهرب من نفسي كثيراً وأظل أبكي وحيداً لعلّي أسترجع عافيتي أمام الآخرين.أستمتع بصلاتي في المسجد كثيراً. أؤذن للصلاة كما لو كنت أسرد قصتي من دون أن يدري أحد بذلك. فقط أخبرني أحدهم مرةً قائلاً : صوتك الهادئ في الأذان يدعو للتأمل والتساؤل كما لوكنت تريد أن تقول شيئاً. ومع ذلك ، مازال الانتظار يذبحني. أنا في مفترق طرق كلها تؤدي إلى آلام مبرحة في الصدر وخارجه. لا أنا أستطيع أن أذهب إلى المستشفى ولا أستطيع أن أهرب منه.
رنّ هاتفي المحمول برقم لا يوجد في قائمة الأسماء لديّ. أفزعني ما كنت أخافه. كان عليّ أن أحضر فوراً من أجل موعد الدخول.لم أعد قادراً على التفكير بشكل واضح. بدوت جسوراً وأنا أخبر من يعزّ علي بالأمر. لن أخبركم بانفعالاتي فهي من النوع الذي يصعب وصفه خاصة وأن القلب ، عندما يكون مكلوماً حرفياً ومجازياً ، يعبّر بطرق متعددة يستحيل وصفها بكلمات.
-2-
لم يكن أمامي أي وقت للتفكير رغم أن الطريق إلى المستشفى التخصصي يبتعد عن قريتي الصغيرة أكثر من 400 كم. لم أكن أعرف أنني سأتجه إلى غرفة العمليات بعد إقامة في المستشفى استغرقت يوماً واحداً. كان الأمر سريعاً ولم يكن بإمكاني أن أستجمع قواي الجسدية والفكرية لكي أستعد لمثل هذا الأمر. الأطباء لا يرحمون. وجدت نفسي أغيب تدريجياً عن عالم الواقع لأودّع فيها الصمامات التي خلقها الله لي في صدري واستبدلها بصمامات صناعية وضعها إنسان مادي. فتحت عيني بوهن ورفعت إصبعي ذاكراً الله وحده ثم غبت في سبات عميق تحت تأثير المخدر القوي الذي كان ضرورياً لعملية معقدة استمرت زهاء خمس ساعات.
كان أول شيء أقوم به بعد أن رجع إلي الوعي الكامل هو محاولة التفريق بين قلبي قبل وبعد العملية. شعرت بفارق كبير بينهما. هالني منظر آثار العملية على صدري الذي أصبح كما لوكان خريطة جغرافية رسمها هاوٍ صغير لا يحسن تحديد الاتجاهات. على المستوى العاطفي ، مازلت أحمل نفس الطيبة إلا أن هناك وهن من نوع مختلف أشعر به في جنبات صدري. لم أخبر أحداً بهذا الأمر. كنت أردّد عبارة ” طيب ” في وجه كل من يسأل عن صحتي.
لم أر رقعة وجه الطبيب السعودي الذي قام بالعملية وإنما فقط طبيب آخر يخبرني أن كل شيء على ما يرام وأن علينا انتظار التحاليل التي قد تستغرق أسبوعاً. يغيب الأطباء عادة بعد العلميات المعقدة خوفاً من أسئلة المرضى ويزداد خوفهم عندما ينفلت زمام الأمور أثناء العملية. البعض منهم يتصنّع الديكتاتورية فيخبر مرضاه أن عليهم الانتظار حتى تتضح الأمور من خلال التحاليل والكشوفات والوقت. ولا يمكن أن تجد طبيباً يعترف لك بخطأ بسيط اقترفه أثناء العملية بحجة أن هذه تفاصيل لا يستفيد منها المرضى. لم أعرف ماذا حدث بالتفصيل من الطبيب المعالج بعد العملية.
انتقلت من العناية الفائقة ثم إلى العناية المتوسطة ثم انتهى بي الأمر إلى غرفة التنويم الاعتيادي في قسم أمراض القلب. كنت أحمل معي جهازاً خارجياً مربوطاً بأسلاك تمتد إلى داخل قلبي ، يقول الطبيب أنه يساعد على تنظيم نبضات القلب المجهد ، بل إنه أحياناً ينوب عن القلب عندما تضعف نبضاته.
لن أتوقف طويلاً مع ما حدث من انفعالات ومشاعر طوال هذا الأسبوع مع القريبين مني والذين كانوا يتواجدون معي كمرافقين أو من خلال جهاز الهاتف الجوال الذي استخدمته رغم تحذيرات الأطباء. تشاءمت من إغلاق هاتفي الجوال أكثر من ثلاثة أيام بعد العملية وأحسست أنني لن افتحه إلى الأبد. ليس هناك أصعب من أن تغيب عن الدنيا حتى ولو كان ذلك من خلال إيقاف تشغيل هاتفك المحمول. لهذا قرّرت أن أعيد تشغيله مرة أخرى لكي أعود إلى الحياة حتى ولو كان ذلك بقلب منهك. قرأت رسائل قليلة أُرسلت إلي وأنا في ظلام دامس . لن أقرأ عليكم بعضها لأن قلبي المجهد لا يستطيع تحمّلها. كنت أسترق مكالمات بعيداً عن أعين الأطباء والمرافقين معي محاولة مني لإنعاش قلبي الضعيف الذي بدأ يؤثّر على قسمات وجهي . كان الزائر القريب مني يعرف الإنهاك الواضح من خلال النظر في وجهي.
تحوّل ليلي إلى كابوس وأصبحت معركتي مع ذلك الجهاز اللعين الذي أحمله. عندما يومض اللون الأخضر فإن ذلك يعني أن قلبي لا يعتمد على نفسه. كنت أفتح عيني في الهزيع الأخير من الليل لألمح ذلك اللون الأخضر الذي لا أرغب أن أراه. كانت معركة حامية الوطيس بين اللونين الأخضر والأحمر. مرة يومض الجهاز باللون الأخضر ومرة باللون الأحمر. لا أدري لماذا وضعوا اللون الأخضر لهذا المعنى السلبي. أليس الأحمر أكثر مناسبة في مرحلة الخطر ؟لم يكن الأمر بحاجة إلى أجهزة أو تحاليل فقد عرفت قلبي الذي ينبض بصعوبة بين جوانحي. كنت أريد أن أخرج من المستشفى مهما كانت العواقب. لم تكشف لي التحاليل شيئاً في الأيام الأولى وكان مقرراً لي الخروج وكنت فرحاً بذلك. اعتقدت أن الأمر يحتاج إلى وقت حتى تستجيب تلك الصمامات المعدنية مع حركة قلبي ، وأن يسيطر اللون الأحمر على هذا الجهاز الذي أحمله. بدأت أكره هذا الجهاز اللعين الذي يرفض أن ينتصر قلبي. كم هو جميل أن اقضي هذا الوقت في المنزل وبعيداً عن المستشفى. أمامنا تحليل واحد فقط إذا تجاوزته فسأخرج إلى المنزل وسيكون بإمكاني قضاء عيد الأضحى مع عائلتي وأقربائي.
جاء طبيب هندي ومعه جهاز رجع الصدى أو هكذا كنت أسمّيه إلى غرفتي. يضع هذا الطبيب شيئاً صغيراً على قلبي من الخارج فتظهر صورة القلب على شاشة تلفزيونية. أما من صدى لهذا القلب المتعب ؟ مشيت طويلاً في ردهات المستشفى لعلي أجد القلب الذي كان معي قبل الدخول دون جدوى. طلب مني الطبيب النفخ في قربة بلاستيكية لمعرفة جهد القلب الجديد الذي أحمله. خفت أن تكون القربة مثقوبة. فرق كبير بين القلبين. بقي الطبيب أكثر من ساعة وهو يغير من مكان هذا الشيء على القلب ويطيل النظر إلى الشاشة بحثاً عن شيء ما . أتعبني صوت القلب المنبعث من خلال الجهاز وبدت الإيقاعات غير المنتظمة كما لو كانت رقصة الموت. ترى عن ماذا كان يبحث ؟ هل فقد إحدى الصمامات ؟ بدأت أخاف من فرط بحثه المتواصل ؟ طلب مني هذا الطبيب الهندي الحضور غداً إلى القسم الخاص الذي يعمل به وذلك من أجل إجراء تصوير أكثر دقة.
فاجأني هذا الأمر وأتعبني فقد بدأت أستعد نفسياً للمغادرة وهذا الطبيب يريد إبقائي مدة أطول في المستشفى. كرهت البقاء هنا وأريد أن أعيش حتى ولو كان ذلك لفترة قليلة. لم أنم تلك الليلة خوفاً من النتيجة التي يخبؤها ذلك الطبيب. ذهبت إليه وبعد أن كرر نفس السيناريو البغيض إذا به يقرّر عملية منظار سريعة تمكنه من الدخول في ردهات القلب وتجاويفه ليعرف السر الذي يختبئ هناك ولم يتمكّن من كشفه. كان ذلك يعني يوماً آخر في المستشفى. بدأت فرص الخروج من المستشفى تتضاءل خاصة وأنا أعرف قلبي الذي أحمله بين أضلاعي. الأمر شبيه هنا بانتظار نتيجة اختبار صعب لا سبيل إلى التأكد من النجاح أو الرسوب فيه.
كشف المنظار خللاً كبيرا في قلبي . أحد الصمامات المعدنية لا يعمل الأمر الذي يقتضي تدخلاً عاجلاً وعملية أكثر تعقيداً حتى لا يتخثر الدم داخل القلب ويحدث ما لا يُحمد عقباه. لا يمكن لبشر أن يتخيل وقع هذا الأمر عليّ. كيف لإنسان كان يتوقع الخروج من المستشفى في أية لحظة وقضاء العيد مع أهله و بعد عملية معقدة في القلب أن يبقى لإجراء عملية أخرى أكثر تعقيداً وخطورة ؟ لم يكن جسمي جاهزاً لعملية أخرى وكان على الأطباء أن يضخوا المزيد من الأدوية في شراييني وأوردتي من أجل الإعداد لها. ليس هناك أي خيار أمامي سوى الموافقة.
الحياة هي مجموعة من الخيارات المحددة سلفاً ولا سبيل إلى الهروب منها. لم يجد الأطباء والمرافقين صعوبة في إقناعي بالموافقة . كان بكاءً مراً ذلك الذي شعرت به من داخل قلبي ولم يلحظه أحد أثناء اجتماع الأطباء معي لإخباري بالموقف الجديد. العملية ستكون غداً. ذهب طبيب العملية الأولى في إجازة لقضاء العيد مع أهله وأقاربه وكان من الطبيعي أن يقوم بالعملية الجديدة طبيب آخر. كان أمريكياً هذه المرة ويعمل رئيساً للقسم. خفت أن أضع قلبي بين يدي براجماتي لا يعرف للعيد أي معنى . قابلت ذلك الطبيب ورأيت الماديّة جسماً يمشي على الأرض. كم أنا بحاجة إلى علاج روحي ! لم أتوقف كثيراً أمام هذه الظروف الاستثنائية فتعقيدات العملية الأولى ستخفيها تعقيدات العملية الجديدة وسيضيع دم قلبي بين الطبيبين.
-3-
عيناي مجهدتان.كم أود أن أغلقهما وأنا أنتظر السرير الذي ينقلني لغرفة العمليات. أبكي من الداخل لكن هذا البكاء لا يظهر على ملامحي من الخارج. هل هذا له علاقة بالأجزاء الصناعية التي أضافوها إلى قلبي. أم تُراه قلبي المتعب الذي تعوّد الألم منذ الصغر. استلقيت على السرير وعيناي المتعبتان تراقبان من يجري خلفي لكي يلقي علي نظرة أخيرة. أدعو الله ألا تكون الأخيرة. أسمع كلمات مشجّع ومودّع غير أني لا أستوعب ما يقولون. أسلمت قلبي لهم ليلاً وغبت عن الوعي.
عالم من البياض يحيط بي من كل جانب. أرى وأسمع وأشم البياض يملأ العالم الذي أشعر به الآن. فتحت عيني في صباح يوم عرفة. اختلطت عليّ صور البياض بين أسرة المستشفى وجبل عرفة. الكل يمتطي البياض.كأنني لمحت أحداً مرّ بجانبي. رفعت علامة الإبهام فرحاً بقدرتي على الاستيقاظ من جديد. لم يكن لي أي قدرة على الحديث فأجهزة التنفس الصناعي تعيق أي محاولة للكلام. أردت أن أشجع نفسي وقدرتي على المقاومة حتى آخر رمق. لم ينته تأثير المخدر القوي بعد ورحت في سبات عميق مرة أخرى ، كأنما استيقظت لأرفع إبهامي فقط وأعود إلى إغماءتي البيضاء.
بدأت أصحو تدريجياً مثقلاً بأجهزة التنفس الصناعي مع قدوم ليلة العيد. ليس هناك أصعب من أن تقضي ليلة العيد في المستشفى بقلب مجهد لا يضخّ الكثير من الأكسجين. عدت إلى نفس الدوامة من جديد. صمامات معدنية جديدة تم تركيبها على يدي طبيب معدني. لم أجد فرقاً كبيراً بين العمليتين أو بين القلبين. كان علي أن أمشي نفس الرحلة البغيضة التي قمت بها سابقاً. انتقلت من العناية الفائقة إلى المتوسطة ثم انتهي بي الأمر مرمياً في غرفة من غرف التنويم الاعتيادي.
تحولت ، عند هؤلاء الأطباء ، إلى كائن مادي بلا روح حيث يتعاملون معي كملف ورقي ملقى على السرير. يأتي الواحد منهم لكي يقلّب أوراق الملف الخاص بي دون أن يهتم بي كإنسان ثم يكتب المزيد من الوصفات والأدوية. أشعر بالإهانة كلما جاء أحدهم يقلّب في أوراقي دون أن يكلّمني وأرغب كثيراً بالصراخ في وجهه غير أن قلبي المجهد يمنعني من ذلك. ليتهم ينتبهون إلى هذا الأمر ويدركون أنني بحاجة إلى علاج روحي قبل أي علاج طبي.
الشيء المختلف هذه المرة هو أنني لا أحمل ذلك الجهاز اللعين الذي أتعبني . ارتحت من مراقبة اللونين الأخضر والأحمر طوال الليل. أخبروني أنهم زرعوه تحت الجلد حتى لا أضطر إلى العودة من جديد إلى المستشفى من أجله. أريد فقط شيئاً واحداً وهو الخروج من المستشفى حتى لو اضطررت إلى الخروج من الحياة نفسها. الشيء الذي يمنعني من هذا الخروج هو التحليل الأخير الذي يجريه ذلك الطبيب الهندي لكي يعرف صدى قلبي المجهد. أصبحت أخاف من ذلك الاختبار. وجد ذلك الطبيب الصمامات المعدنية تعمل في مكانها الطبيعي ، أو هكذا قال لي ، وكان ذلك شيئاً عظيماً لأني ذلك يعني أنني سأخرج قريباً من المستشفى.
-4-
ذهبت إلى المنزل بعد معركتين شرستين خرجت منهما بأقل الخسائر إذ لا يوجد منتصر في أي حرب ، كما يقولون. بدت الحياة مختلفة نوعاً ما عما كانت عليه. أصبح قلبي الجديد بصماماته الجديدة ينظر إلى الحياة بشكل مختلف. لم أعد أكترث لأي قضية يراها الناس في قريتي الصغيرة مهمة. كنت أضحك كثيراً عندما أكون وحدي على اهتمامات الناس السخيفة وكيف أنهم لا يستطيعون إدراك المعنى الحقيقي للحياة. الحياة ، كما أراها ، هي أن تحب الناس ، أي ناس مهما كانوا. لا يوجد للكراهية أي معنى في الحياة الجميلة. تضايقت قليلاً من كوني المؤمن الوحيد بهذه الحقيقة. الناس غافلون باهتماماتهم المادية الساذجة. كم كنت أود أن أجوب الشوارع لأروج لهذه الحقيقة بين الناس لكن قلبي المتعَب يمنعني من ذلك.
أتعب كثيراً في ليل الشتاء الطويل في هذه القرية التي تنام مع غروب الشمس. تعود إليّ تلك الكوابيس التي أشعر بها في الهزيع الأخير من الليل. صوت ذلك الطارق البغيض ما يزال في الأفق يترقّبني. لا أشعر بأي رغبة في معركة جديدة فلم يبق في صدري جزء إلا وفيه أثر دامٍ يعيد إلي ما لا أطيق. لم أخبر أحداً بهذا الزائر الثقيل آخر الليل خوفاً من العودة مرة أخرى إلى المستشفى. كنت أردد عبارة ” الحمد لله ، طيب ” لكل من يلحظ ذلك الإرهاق الذي يختفي بين تعابير وجهي وملامحي الخارجية.
بعد أسبوع واحد فقط قضيته في المنزل داهمني آخر الليل نفس ذلك الزائر الثقيل يطرق بشدة على صدري المُثقل بالجراح. لم يعد هناك ما يكفي من أكسجين يروح ويجيء في صدري.لم أذهب إلى المستشفى كما طلب الجميع مني ذلك بل ذهبت بنفس مطمئنة إلى مكانٍ ناءٍ شمال القرية حيث لا أحد هناك يعكّر صفوي أو ينغّص علي رقادي الطويل. الناس هنا يعيشون بصمت مطبق وهدوء مزعج. السكون يحيط بي من كل جانب. غابت عني تلك الأصوات المزعجة إلى الأبد. لا شيء هناك خارج هذا المكان في هذا الظلام الدامس. فقط صوت كلب ينبح من بعيد و ريحٍ باردة تنخر في عظم الباب الحديدي.
*هذه القصة تعتمد على أحداث حقيقية
قصة عظيمة..
غفر الله لصاحبها وكاتبها..
أن تؤمن إن الحياة ماهي إلا مجموعة خيارات محددة مسبقاً لاتملك سوى أن تتخذها وتتكيف معها.. وفي ذات الوقت تشعر برغبة عارمة في الهرب منها .. حتى لو كنت تهرب للعدم .. مشاعر متناقضة وتفاصيل عميقة تجبرك على التفكير في المعنى الحقيقي للوجود .
اللهم اكفنا شر طوارق الليل والنهار الا طارقا يطرق بخير.
عميــ?ـقة لحد الألم
بعيني قاريء تعيش ادق التفاصيل وكأنك ترجع بالزمن لما قبل ٢٠ سنة.
يستطيع الكاتب المحترف وحده أن يغوص بك في الأعماق ويصف ماتعجز عن وصفه بكل دقة متناهية فكيف إذن اندمجت مع عاطفة جياشة تهطل هكطول المطر بحبرها على الاوراق لتلامس اقصى مالايستطيع مؤشر المشاعر والتعبير عن الوصول له.
رحم الله صاحب القلب الطيب وجعله بنعيمٍ دائم
وللاديب الدكتور (خالد العوض) كل الدعوات الصادقة بالتوفيق والسعد وله منا الشكر والتقدير.
في الفقد .. في المرض .. تتبدل نظرتنا للحياة تحية للدكتور خالد ولقلمه الرائع