الغلاف هو ما يجذب القارئ نحو الكتاب. يردّد كل من يهتم بصناعة الكتاب أن مقولة “لا تحكم على الكتاب من خلال عنوانه أو غلافه” ليست صحيحة تماماً. لذا أعترف لكل من يقرأ هذه الكلمات – وهو رأي شخصي سيعذرني القارئ على البوح به – أنني توقفت طويلاً عند غلاف كتاب “المنهج في عصر ما بعد الحداثة” . ليس ذلك فقط بسبب ارتباطه بالفراشة، ذلك الكائن الجميل الذي لا يختلف اثنان على جماله وجاذبيته، وإنما بسبب أنه يلخّص فكرة الكتاب برمّته ويفتح له آفاقاً واسعة ومتعددة للتفسير والخيال تتجاوز الأساس النظري الذي نشأت منه فكرة هذا الرسم الرياضي الذي أصبح ملكاً للجمهور.
الغلاف رسم بياني في الرياضيات لا يعتمد على الشبكة الديكارتية – محور س ومحور ص- لتوضيح العلاقة بين متغيرين اثنين بحيث يُخصّص لكل متغيّر محور معين؛ بل هو رسم بياني ثلاثي الأبعاد تجتمع المتغيرات في نقطة معينة وذلك من أجل أن يوضّح الرسم البياني النظام برمّته وهو يتحرك خلال أوقات زمنية معينة. أي بدلاً من النظر إلى علاقة الأجزاء أو المتغيرات ببعضها ينظر الفرد إلى النظام أو المنظومة وعلاقتها بنفسها مع مرور الوقت. هذه النماذج تخلق أشكالاً جميلة جداً مثل هذا الذي نشاهده على الغلاف.
الصورة على الغلاف الخارجي للكتاب و التي اشتهرت تحت اسم “جناح الفراشة” – هي صورة مجازية فقط. النقطة التي تتحرك مع هذا المسار الحلزوني لا تكررّ نفسها أبداً وفي الوقت نفسه مُحدَّدة. هذه النقطة هي البناء الرياضي لمتغيرات نظام سُجّلت إحداثياته في لحظة معينة من الزمن. المسارات هي سلسلة من “اللقطات” الخاطفة لهذه الإحداثيات لحظة بعد لحظة. هناك ثلاث سمات واضحة في هذا الرسم. أولاً ،”الفوضى” هنا ليست عشوائية من دون نظام, بل هو ترتيب معقّد. لا يمكنك هنا التنبؤ بدقة بمكان النقطة التالية في المسار (حيث لا يكررّ المسار نفسه أبداً ) لكن في الوقت نفسه لا تخرج هذه النقطة عن حدود الرسم. ثانياً، للمسارات حدود ومركز لمنطقة “الجاذب” أو الجذب التي لا يمكن تحديدها، لكن المسارات هذه عندما تتحرك من المنطقة المركزية لا تلبث إلا أن تعود لها من جديد، ثم تبتعد مرة أخرى. عندما يتحرّك هذا النظام ذهاباً وإياباً يشكّل في نهاية الأمر تناغماً وتناسقاً كلياً. ثالثاً، في فترة معينة، أي نقطة تتحرّك في هذه المسارات تخرج من “جناح الفراشة” ثم تعود إليه. يحدث هذا التحرّك بشكل مؤكد لكن لا يمكن التنبؤ به ولا بالوقت الذي يمكن أن يحدث فيه. هذا النموذج عشوائي لكنه يظل نموذجاً منظّماً.
انتشرت هذه الفكرة الرياضية المعقدة إلى الجمهور في كل مكان. الكل منا يذكر الفيلم الشهير “أثر الفراشة” الذي يتحدث عن نفس الفكرة التي جاء بها إدوارد لورينز وهي أن الفروقات الصغيرة في بداية الأمر تؤدي إلى فروقات ضخمة في النهاية. مَنْ يستطيع أن يترجم المعادلات المعقّدة والرسوم البيانية في علم الرياضيات إلى هذه الفكرة البسيطة الواضحة التي تعدّت حدود علم الرياضيات الجاف نحو آفاق أوسع لجمهور لا علاقة له بالرياضيات؟ كم من الأفكار في العلوم الطبيعية التي ظلت حبيسة جمهورها القليل والمحدود بسبب الفشل في تقديمها للجمهور العريض خارج تخصصها الدقيق! من أين لنا بعالم مثل إدوارد لورينز يستطيع أن يفعل ذلك؟ لكن السؤال الآن: ما علاقة جناح الفراشة بموضوع الكتاب الذي بين أيدينا ؟