تتجه نحو محطة أوميدا Umeda لمترو الأنفاق في وسط مدينة أوساكا الجميلة لتأخذ القطار، والذي يعتبر الوسيلة المهمة والمريحة والمتطورة للتنقل في اليابان، قاصداً منطقة مينامي Minamiللتسوق من هناك، تشتري تذكرة القطار من جهاز آلي بسهولة شديدة ودونما أي تأخير، يهولك كل هذه المتاجر التي تتوزع في هذه المحطة تحت الأرض والأعداد البشرية التي تتحرك كتفاً بكتف بمرونة شديدة وتنظيم يفوق الوصف ومن دون أن يحدث أي فوضى بشرية والتي عادة ما تعرقل عجلة الحياة في دول العالم الثالث، تأخذ تذكرتك وتمررها على الجهاز الآلي ثم تدلف نحو الممرات المؤدية إلى رصيف القطار الذي سينقلك نحو وجهتك، تركب القطار وتأخذ مقعدك مثل المئات غيرك وتجلس تراقب ما يحدث حولك، ماذا ترى؟ أكثر الجالسين من الكبار في هذا القطار منشغل بقراءة كتب ذات نوعية خاصة تكثر فيها الرسوم الكرتونية، يتكرر هذا المشهد تقريباً في كل مكان في اليابان، تتجه إلى أقرب مكتبة في منطقة مينامي مارّاً بمنطقة القرية الأمريكية America Mura والتي تنتشر فيها آخر صيحات الموضة الأمريكية والتي تستهدف فئة الشباب على وجه الخصوص وليس المجال هنا لمناقشة دلالات الاسم وتواجد الثقافة الأمريكية بشكل صارخ هناك، عندما تصل المكتبة هناك تتفاجأ بوجود كم هائل من الكتب من تلك النوعية ويلفت انتباهك أيضاً أن هذا الجزء من المكتبة يجتذب أكثر المرتادين هنا، أي أنه الأكثر ازدحاماً مما يعني رواج مثل هذه الكتب في هذا الجزء من العالم، لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنك تجد هذه الكتب الكرتونية في الأسواق المركزية العادية وأسواق التموينات التي تنتشر في الأحياء. إذن، ما الذي يحدث؟ وما تفسير هذه الظاهرة المنتشرة في اليابان؟ هذه الظاهرة اصطلح على تسميتها في اليابان بالمانجا manga والتي تتعلق بالكتب المرسومة بشكل كرتوني أما مصطلح Anime فهو عادة تحويل هذه الكتب الكرتونية إلى إنتاج تلفزيوني وأفلام متحركة، وقد انتشرت بشكل كبير وتجد رواجاً هائلاً بين شتى فئات الشعب الذي تنخفض فيه نسبة الأمية إلى الصفر تقريباً، بل إن هذه الظاهرة، بعد نجاحها محلياً، انتشرت في شتى أنحاء العالم حيث انتقلت إلى أوروبا وغني عن القول أن نقول إلى أمريكا، تلك الدولة التي غربلت المجتمع الياباني ثقافياً بعد الحرب العالمية الثانية. هذه الظاهرة وصل تأثيرها إلى الشرق الأوسط في بداية الثمانينيات الميلادية عندما انتشرت القصة الكرتونية والمعنونة بمغامرات الفضاء بين أطفال العرب حيث نجح اللبنانيون بنقل هذه القصة اليابانية بلغة عربية راقية، وتتواجد هذه القصة بنسخ كثيرة في شتى أنحاء العالم شملت الإيطالية والفرنسية والإنجليزية، لم يقف اليابانيون عند هذا الحد بل انهم مازالوا يواصلون إنتاج مثل هذه الأعمال الأدبية بشكل يكاد يفوق ما تنتجه الثقافة الغربية ونظرة بسيطة إلى شاشات التلفزة العربية وأشرطة ألعاب الكمبيوتر تؤكد أن معظمها ياباني المنشأ والإنتاج. هذا النوع من الأدب يستخدم الصورة المرسومة بالإضافة إلى النص المصاحب لها أي أنها تطبق الفلسفة التي تقول ان الصورة تغني عن ألف كلمة ويتناول مواضيع عديدة ويخاطب شرائح المجتمع كافة، ولا يقتصر فقط على الأطفال، كما يبدو لأول وهلة، بل ان أكثر رواد مثل هذا النوع من الكتب الكرتونية هم من البالغين والكبار كما أوضحنا في بداية هذا المقال، إذ يكفي أن نذكر ان من بين كل ثلاثة كتب تصدر في اليابان يكون هناك كتاباً واحداً من نوع المانجا، وقد وصل حجم مبيعات مثل هذه الكتب وحدها في عام 1998م إلى خمسة بلايين دولار. ليس هناك تحديد للمواضيع التي تتناولها هذه الكتب فهي تشمل كل شيء تقريباً مثل السياسة والمغامرة والحب والسخرية والضحك والفضاء والخيال العلمي والحروب والحيوانات والرياضة وما شئت بعد ذلك. من الكتاب اليابانيين الذين برعوا في هذا الاتجاه جو ناجاي Go Nagai صاحب مغامرات الفضاء التي تحدثنا عنها سابقاً، وكذلك أوسامو تيزوكا Osamu Tezuka الذي يعتبر الأب الروحي للمانجا الحديثة وصاحب إحدى الشخصيات المشهورة التي اقتبستها منه شركة ديزني الأمريكية، الأمر الذي أدى إلى امتعاض وغضب العديد من اليابانيين الذين يمتهنون مثل هذا النوع من الأدب. لكن ما الذي جعل اليابانيين يتجهون إلى مثل هذا النوع من الأدب إلى الدرجة التي تجد فيها مجموعة من اليابانيين يتسمّرون طويلاً أمام الجزء الخاص بهذا النوع من الكتب في أي سوق صغيرة للتموينات داخل كل حي في المدن اليابانية بشكل يلفت انتباه أي زائر لليابان؟ هل هناك من أسباب منطقية أدت إلى مثل هذا الاتجاه؟ لعل من ذلك أن اليابانيين وجدوا في مثل هذه الكتب نوعاً من الهروب والبعد عن المآسي التي عاشوها بعد هيروشيما وناجازاكي، أو من الحياة التي تمتلئ بالتقاليد الجافة والقوانين الصارمة التي يطبقها اليابانيون في حياتهم العامة ويجدون صعوبة كبيرة في التخلص منها بأسلوب المحافظة على الهوية اليابانية، أو لعلها نوع من أحلام اليقظة التي يجد فيها الياباني متنفساً حقيقياً للهروب من المعضلات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها هذه الدولة الصناعية الكبرى. المجتمع الياباني مغلق أمام العالم فهم يطبقون أو لنقل أُجبروا على تطبيق فلسفة أن الأفعال أبلغ من الأقوال، فها أنت ترى آلاف المنتجات اليابانية تنتشر في كل مكان في العالم دون أن تصاحبها ضجة إعلامية متغطرسة نجدها في الثقافة الغربية عادة، إذ يكفي، على سبيل المثال لا الحصر، أن الشخص الأجنبي الذي يمتلئ منزله بكل هذه المنتجات اليابانية لا يتمكن من معرفة كلمة واحدة باللغة اليابانية، لهذا السبب، وجد اليابانيون في هذا الاتجاه نوعاً من التعبير أو التواصل مع أنفسهم أولاً ثم مع باقي أجزاء العالم. من الأشياء المثيرة للانتباه أن رسامي هذا النوع من الشخصيات التي تمتلئ بها هذه الكتب أو تجدها في الأفلام المتحركة للأطفال والكبار لا يصورون الشخصية اليابانية بشكل حرفي فأنت تجد على سبيل المثال لا الحصر العيون الواسعة والكبيرة لأبطال مثل هذه الأعمال على نحو يتناقض مع العيون الآسيوية المعروفة. لكن يجب أن نبين هنا أن القصص التي يقدمها اليابانيون في الشرق ويشاهدها ملايين الأطفال في العالم الإسلامي، ومستقبلا الكبار عندما يتجهون إلى مثل هذا الأدب كما اليابانيون وغيرهم، أفضل بكثير من القصص التي تأتي من الغرب فهي تمتلئ بحب الخير والسلام ومكافحة الشر والجريمة، والحث على التعاون ونبذ الأنانية، والصدق وحب الناس.