مدينة زائفة
في الضباب البني لفجر شتائي
تدفق حشد على جسر لندن، حشد غفير،
ماخطر لي أن الموت قد اباد مثل هذه الكثرة
***
نحن البشر الجوف
نحن البشر المحشوون
يسند بعضنا بعضا
عقل مليء بالقش. واأسفاه
شكل بلا هوية، ظل بغير لون
طاقة مشلولة، إيماء بغير ما حراك
***
في هذا الوقت من كل عام يتوافد الناس من شتى أنحاء العالم، ومن هذا الجزء من العالم بالذات لزيارة مدينة الضباب كما تسمى عند البعض من الذين قد تطالهم تلك الصفات التي عبر عنها اليوت في الاقتباسين أعلاه من قصيدتيه المشهورتين والمعنونتين ب«الأرض اليباب»و«الرجال الجوف» على الترتيب.
يرى بعض النقاد أن هاتين القصيدتين كانتا في الأصل قصيدة واحدة، لكن عزرا باوند فصل القصيدتين عندما حذف أبيات «الرجال الجوف» عن الأرض اليباب، خاصة وأن اليوت يعتبر باوند«الصانع الأمهر» في الشعر الحديث. هذه القصيدة تعتبر المثال الحي والتطبيق الفعلي لنظرية الحداثة في شعر القرن العشرين وقد امتد تأثيرها إلى جميع أرجاء العالم وفي العالم العربي على وجه الخصوص حيث تأثر العديد من الشعراء العرب في هذه القصيدة التي تمتلىء بعوالم كثيرة وأساطير واقتباسات وصور عديدة استخدمت لترسخ مفهوما جديدا للشعر الحديث في العالم.
هذه القصيدة صورت لندن على أنها مدينة تسير نحو الهاوية، وهي تمثل كل هذه الحضارة الحديثة أو العالم المعاصر الذي رآه اليوت في النصف الأول من القرن العشرين، لقد وصف الانسان الحديث بأنه مجموعة من الصور المتكسرة تمشي على الأرض فهو لا يرى في لندن، التي يمكن اسقاطها على كل مدينة حديثة أخرى. الا الانحطاط الأخلاقي، والتعفن السياسي«حيث يرى اليوت أن الديموقراطية تنظيم بغيض وفاسد» والانحلال الثقافي، والاضطراب النفسي.
الانسان هنا، ضمن سياق اليوت في هاتين القصيدتين،«لا هو حي ولا هو ميت» وانما هو انسان يتجويف فارغ من كل ما تحمله الحياة الحقيقية من معان سامية وروحية.
لقد اراد اليوت هنا أن يعبر في صور متكسرة وصعبة الفهم عن هذه الحياة الحديثة المتكسرة التي لاطائل منها اذا ما استمرت على هذا النهج المتشائم الذي صوره وهو في نوبات المرض والارهاق.
هذه الصور التي يقدمها اليوت في الشعر شبيه إلى حد كبير بالصور والأحداث التي يقدمها ارنست هيمينجواي في الرواية حيث تحدثنا في مقال سابق في هذا المكان عن الشيخ والبحر كنموذج يوضح هذا المفهوم، لذلك فالاثنان يقدمان هذه الحقيقة المرة للعالم الحديث والمتمثلة بانتشار الحياة المادية على حساب القيم الأخلاقية والروحية وبالتالي انتهاء العالم».
لا بالضجيج وانما بالنشيج» كما عبر عن ذلك اليوت في نهاية قصيدته «الرجال الجوف».
تحدث اليوت في الجزء الأول من قصيدته عن هؤلاء الذين يعبرون فوق جسر لندن ووصفهم بالموت رغم أنهم يمشون ويحدقون نحو أقدامهم فهو موت مجازي، ثم بعد ذلك يختتم قصيدته بموت حقيقي وليس مجازياً حيث يتهافت جسر لندن ويسقط نحو الأرض.لنحاول هنا، أن نسقط معاني اليوت التي ذكرها على أولئك الذين يرتادون لندن أو يتسكعون في ادجوير رود أو كوينسوي أو نايتبريدج أو أكسفورد ستريت. هل من تشابه يمكن أن نخرج به بين أولئك الذين يعيشون بلندن، وأولئك الذين يرتادونها كل عام. هل نجد ذلك الخواء الروحي أو الهوية المفقودة التي قد تنعكس بفكرة سلبية مستوردة أو لبس قميص أو قصة شعر أو حتى فقط التفاخر بالذهاب إلى مكان وصفه أحد قاطنيه الكبار بالتلوث الحرفي والمجازي!
Post Views:697
Subscribe
1 تعليق
Inline Feedbacks
View all comments
أحمد عبيات
السلام عليكم
كتابات حضرتك راقية ومتفهمة للظروف الحالية التي طالما أبهرت الكثيرين، وجعلتهم ينسون الهوية الحقيقية للجنس البشري وخواءهم فعليا من الأخلاق والإنسانية والتواصل الحميم واكتفوا بمجرد القصور الزاهية والسيارات الفارهة والجسور العالقة والمظاهر الشكلية الخادعة الأخرى من مظاهر التعفن الحضاري البشري الذي جاء معه تلوث في النفس والروح والفكر والعمل.
أول مرة ارتاد صفحتك، أعجبت بها، جزاك الله على ما تنشر ما يصلح لك وما فيه سعادتك وخيرك.
السلام عليكم
كتابات حضرتك راقية ومتفهمة للظروف الحالية التي طالما أبهرت الكثيرين، وجعلتهم ينسون الهوية الحقيقية للجنس البشري وخواءهم فعليا من الأخلاق والإنسانية والتواصل الحميم واكتفوا بمجرد القصور الزاهية والسيارات الفارهة والجسور العالقة والمظاهر الشكلية الخادعة الأخرى من مظاهر التعفن الحضاري البشري الذي جاء معه تلوث في النفس والروح والفكر والعمل.
أول مرة ارتاد صفحتك، أعجبت بها، جزاك الله على ما تنشر ما يصلح لك وما فيه سعادتك وخيرك.