إرنست هيمنجوي : الكتابة القاتلة

لقد أدرك الآن أنه هُزم هزيمة نهائية لن تقوم له بعدها قائمة.. لقد غدا القارب خفيفا رشيق الحركة، ولم تراود الشيخ أيما فكرة، أو يخالجه أي شعور. لقد تخطى الآن كل شيء فهو لا يفكر إلا في شيء واحد: أن يبلغ الشاطئ على خير وجه. وفي الليل كانت أسماك القرش تنقض على هيكل السمكة العظمي كما يتهافت الفقراء على بقايا المائدة، ولم يبال الشيخ بها.. بيد أنه لاحظ رشاقة القارب وسرعته بعد أن تخفف من معظم الحمل الذي يثقل خطاه.
***
تلكم كانت النهاية المأساوية التي عاشها سانتياجو بطل قصة ارنست هيمنجوي الذائعة الصيت «الشيخ والبحر» وهو يعود وحيداً من رحلة صيد في عمق البحر استمرت أربعاً وثمانين يوماً من دون أن يتمكن من اصطياد سمكة واحدة، لكن بعد كل هذا الحظ التعيس يجد هذا الشيخ سمكة ضخمة تزيد عن ألف وخمسمائة رطل فتتحول رواية هيمنجوي بعد ذلك إلى معركة شرسة مع هذه السمكة ثم مع أسماك القرش امتدت إلى ثلاثة أيام انتهت إلى هزيمة الشيخ حيث التهمت الأقراش السمكة التي اصطادها ولم يبق إلا الهيكل العظمي لها الذي أحضره معه إلى الشاطئ. الشخصية الأخرى في هذا العمل الأدبي المتميز هي الولد الصغير الذي اصطحب الشيخ في الأربعين يوماً الأولى، لكن والديه رفضا أن يستمر مع الشيخ بحجة أن حظه النحس يمنعه من اصطياد أية سمكة. تعددت القراءات النقدية لهذا العمل الأدبي ومنها ان هيمنجوي، بعد معاناة مستمرة من النقاد في أعماله الأدبية، أراد أن يفضح هؤلاء النقاد ويبين مدى فشلهم وضعفهم في الحكم عليه وعلى هذا النص الجديد، حيث يمثل سانتياجو هيمنجوي نفسه، بينما السمكة العظيمة، هذا الصيد الثمين، تمثل الاعمال الأدبية التي ينتجها، أما أسماك القرش التي التهمت هذه السمكة العظيمة وحولتها الى مجرد هيكل عظمي لا فائدة منه فهي ترمز الى النقاد بألسنتهم الحادة وظلمهم الواضح لمن أنتج هذه الأعمال الأدبية المتميزة والكبيرة.
وقد حاول هيمنجوي نفسه ان يتهرب من هذه القراءات التي تحمِّل النص أكثر مما يحتمل، موضحاً أن الشيخ يمثل الشيخ نفسه وأن السمكة هي مجرد سمكة، كما ان أسماك القرش ما هي إلا أسماك قرش، لكن من الصعب التصديق بهذا القول خاصة وان هيمنجوي أشار أكثر من مرة قبل انتاج هذا العمل الذي جلب له جائزة نوبل في الأدب عام 1954م إلى عدم امكانية تصديق مثل هذا القول.
لكن هنا سنحاول ان نستنتج قراءة جديدة لهذا النص نتجت من المعطيات التي برزت في حياة هيمنجوي نفسه أو من خلال الثقافة الأمريكية التي انتشرت بعد رحيل هيمنجوي ووصلت الى كل ناحية من هذا العالم بسبب القوة السياسية والاقتصادية والاعلامية التي تتمتع بها هذه الثقافة.لقد انتهت هذه المعركة التي خاضها الشيخ مع أسماك القرش حول صيده الثمين الى هزيمة قاسية، أو بمعنى آخر إلى لا شيء، أي أن حياته كلها أصبحت لا معنى لها، ولهذا التفسير ما يبرره من حياة هيمنجوي نفسه حيث أطلق على نفسه النار باستخدام نفس البندقية التي استخدمها جده في انهاء حياته، لأنه أدرك أن الحياة لا معنى لها وهي نفس النتيجة التي وصل إليها الشيخ وهو يحمل السمكة التي تمثل هيكلا عظمياً الى الشاطئ. الغريب ان حفيدته التي عاشت في أمريكا المعاصرة أنهت حياتها عام 1996 بالانتحار أيضاً وهي الشخصية الخامسة من نفس العائلة التي تموت بنفس الطريقة. هذه نتيجة تدعو الى منطقية فهم الثقافة الأمريكية من خلال أدب هيمنجوي الذي يعتبره الأمريكيون أفضل كاتب أمريكي على الاطلاق، بل انه كاتب قدم صورة ثورية لماهية الأدب بابتكاره أسلوبا جديدا في الكتابة لم يعرفه العالم قبل مجيئه. هذه الحقيقة المرة التي اكتشفها هيمنجوي من خلال النهايتين لبطله العجوز الهافاني ونفسه شخصيا تكاد تكون ظاهرة عامة في شتى أعماله الأدبية، لكن لم يجرؤ أحد من النقاد الأمريكيين على التوصل إليها فهم يتحدثون طويلا عن الشجاعة والفخر pride كمصدر للعظمة، والشرف honer في النضال الذي يتمتع به الشيخ في معركته في هذه القصة لكنهم يجهلون أو يتجاهلون تفسير النتيجة أو النهاية التي توصل إليها الشيخ في هذا العمل الأدبي أو المصير الذي انتهى اليه كاتب هذا العمل الأدبي. الفلسفة الأمريكية هي براجماتية تجري خلف المصلحة أو المنفعة فهي بالتالي مادية جشعة وهو ما يمكن تفسيره هنا بالسمكة الكبيرة التي اصطادها الشيخ والذي يمثل الشخصية الأمريكية بوجود هيمنجوي نفسه الذي استخدم أسلوب القتل في اصطياده لهذه السمكة، وقد توقف الشيخ كثيراً في مدى مشروعية عمله هذا لكنه توصل الى ان هذه هي سنة الحياة.
لكن يظل السؤال الأصعب وهو ما الذي يمكن أن تمثله أسماك القرش هذه والتي تمثل العدو الأكبر لهذا العجوز، وهل يمكن أن نجد في هذا العالم من يمكن ان يمثل هذا الجانب الذي يقف على الطرف الآخر ويمثل ازعاجا لهذا الهرم العجوز الذي لا يفهم كيف انتهت حياته بلا معنى أو هدف؟!

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments