بقلم خالد العوض
لا أحد درس أو تخصّصَ في المناهج وطرق التدريس إلا ويعرف هذه المنهّجة curricularist الشهيرة أو سمع عنها الكثير خاصة في مجال نظرية المنهج ونماذجه. لكن الكثير من هؤلاء المتخصصين لا يعرفون شيئاً عن سيرة هيلدا تابا Hilda Taba الذاتية خاصة من المنهّجين العرب الذين اعتادوا تبنّي كل شيء يأتي من الغرب دون سؤال أو تأمّل. قصة هيلدا تابا التي نسردها هنا تثبت أن ما تلقّفه العرب عن المنهج يأتي بمعزل عن السياق الثقافي أو الاجتماعي الذي نشأت فيه قصة المنهج والنماذج التي سيطرت عليه في بداية نشأته كعلم مستقل ومجال جديد في التربية.
بحسب كتب المناهج، اشتهرت هيلدا تابا بالنموذج الذي وضعته في عام 1962 في كتابها الشهير تطوير المنهج: النظرية والتطبيق [1] الذي كان، أي النموذج، تهذيباً وتعديلاً وإضافةً للنموذج الذي جاء به رالف تايلور في عام 1949 ونشره في كتابه المبادئ الأساسية في المناهج وطرق التدريس [2] الذي يعتبره المنهّجون على أنه “مانفيستو” manifesto أو الدستور الرسمي للمناهج وطرق التدريس في أسئلته الأربعة الشهيرة التي مازالت تسيطر على نظرية المنهج منذ منتصف القرن الماضي وخاصة في المناهج العربية ومدارسها التي لم تستطع الفكاك منها. لكن من هي هيلدا تابا وما قصتها؟
وُلدت هيلدا تابا في إستونيا (دولة في شمال أوروبا) في عام 1902 حيث واصلت تعليمها هناك حتى حصلت على الدرجة الجامعية في اللغة الإنجليزية والفلسفة، ثم حصلت على منحة دراسية لأمريكا وأكملت الماجستير بنجاح في كلية خاصة بالنساء في كاليفورنيا اسمها برن مور Bryn Mawr في عام 1927، وبعد ذلك التحقت بجامعة كولومبيا لدراسة الدكتوراه تحت إشراف منظّر المنهج المعروف ويليام كيلباترك وحصلت عليها من كلية المعلمين في عام 1932. كما أن تابا كانت لها فرصة التتلمذ على يد الفيلسوف التربوي جون ديوي وتأثرت بأفكاره خاصة في أعمالها الأخيرة. كانت تابا قد تقدّمت للعمل في جامعتها التي تخرّجت منها في أستونيا إلا إن طلبها قوبل بالرفض بسبب أنها امرأة. التعامل بهذه الطريقة مع النساء في ذلك الوقت لا ينحصر في أوروبا (الشرقية منها في حالة تابا) فقط وإنما في أمريكا أيضاً إذ يذكر ويليام دول في كتابه المنهج في عصر ما بعد الحداثة [3] أن النساء المتزوّجات لا يُسمح لهن بالتدريس في النصف الأول من القرن العشرين. وجدت هيلدا تابا عملاً كمعلمة للغة الألمانية في مدررسة بنيويورك والتي كانت ضمن المدارس التي تخضع لدراسة الثمان السنوات التي تهتم بالتقويم وكان يرأسها رالف تايلور الذي وجّه لها دعوة الانضمام لفريق التقويم في جامعة أوهايو. بعد ذلك أصبحت مديرة للمناهج في جامعة شيكاغو، ثم انتقلت إلى كلية سان فرانسيسكو وواصلت دراساتها في المنهج حتى وفاتها في عام 1967 في كاليفورنيا.
من خلال السرد السابق، تبدو الأمور طبيعية. لكن، هل هناك منهج خفي مواز لهذا المنهج الظاهر، إذا اردنا أن نستخدم مصطلحات المنهج، على اعتبار أننا نناقش هنا أمراً يخص علمين من أعلام المنهج هما هيلدا تابا ورالف تايلر؟ هذا ما نحاول أن نكشفه هنا.
إذن، كانت هيلدا تابا طالبة مهاجرة من دولة كانت خاضعة لسلطة الاتحاد السوفيتي آنذاك وتعيش في الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر العدو اللدود للاتحاد السوفيتي. هل هذا يمكن أن يؤثّر على أعمالها ومشاريعها في المنهج؟
ويليام باينار William Pinar ، المنهّج المعاصر والمعروف يكشف شيئاً جديداً حول الظلم الكبير الذي تعرّضت له هذه الأستونية المسكينة وينشر ورقة بحثية خاصة بهذا في أحد أشهر المجلات العلمية المتخصصة في المناهج وطرق التدريس[4].
يقول ويليام باينار أن نموذج رالف تايلر الشهير الذي انتشر عند المنهّجين وفي كتب المناهج على أن صاحبه هو رالف تايلر هو مجرد سرقة علمية ارتكبها تايلر متعمّداً إخفاء المراجع في كتابه المعروف وذلك بحجّة، كما يقول تايلر في مقابلة معه في عام 1990 ووثّقها باينار في ورقته البحثية، أنه كان في الأصل مقررا درراسياً يقوم بتدريسه في جامعة شيكاغو “ولم يكن كتاباً ” و ” قد طبعته الجامعة” دون الرجوع إليه. هل يُعقل، يتساءل باينر، أن تطبع جامعة مهنية كشيكاغو كتاباً دون الرجوع للبروفيسور تايلر أو أن تنشر كتاباً من دون مراجع؟
يقول ويليام باينر أنه شك في مسألة أصل النموذج الذي قدّمه رالف تايلر عندما كان يعدّ ورقة بإنجازاتها لتقديمها في مؤتمر في عام 2012 حيث يعتقد باينر أن تابا نفسها، لسبب ما، هي من ساعدت في ترويج هذه الخدعة في مقدمتها للكتاب الذي أصدرته في 1962 عندما قالت أن فكرة نموذج رالف تايلر كانت نتيجة مناقشات في لقاء معها في الثلاثينات من القرن الماضي حول الخطوات التي ينبغي اتباعها في تخطيط المنهج، أي أنها هنا، بحسب مقدمتها في الكتاب، رفعت موقفها من مجرد مراجع لنموذج تايلر إلى مشارك في تأليفه. في المقابل، لم يتفوّه تايلر بأي شيء حول هذا الأمر وتجاهل ادعاء تابا تماماً في كتابه الذي خلا من أي إشارة إلى أي مرجع، وبالتالي خلق الانطباع لدى القارئ أنه صاحب هذا النموذج وحده فقط.
يكشف باينر عن سوء نية رالف تايلر بالإشارة إلى مقابلة أجراها هذا الأخير في عام 1982 تحدّث فيها عن الدور الهامشي لهيلدا تابا في أعماله، وأن هذا النموذج لم يكن نتاج مناقشة مع تابا ومايك جايلز ختمها تايلر بكتابة ملخص الأسئلة وتسجيلها على محرم ورقي بعد وجبة غداء (بحسب رواية كريغ كريدل وروبرت بولو، 2007) [5] ، وقال، أي تايلر، إن هيلدا تابا لم تكن تعرف شيئاً في المناهج والاختبارات عندما وجدها تعمل كمعلمة للغة الألمانية في 1936 وأنقذها من مخالفة قانون الهجرة بعد انتهاء تأشيرتها وكانت السلطات على وشك ترحيلها لولا تدخّله وتعاقده معها للعمل في فريق التقويم معه حيث بدأ تايلر وقتها، 1936، في تعليمها، حسب تعبيره، حتى أصبحت بعد ذلك خبيرة في مجالها.
لكن، هل كانت هيلدا تابا لا تعرف شيئاً في المناهج أم أن تايلر نفسه لا يعرف شيئاً؟ يتساءل ويليام دول ويكشف العكس تماماً.
أصدرت هيلدا تابا كتاباً في عام 1932 عنوانه The Dynamics of Education يضم فصلاً كاملاً تحت عنوان curriculum thinking ، وقد صدر الكتاب ضمن سلسلة متميّزة من الكتب لمؤلفين كبار. “من الواضح أن تايلر نفسه هو الذي لا يعرف شيئاً في المنهج،” يقول باينر.
في هذا الكتاب بالذات وضعت المؤلفة المهاجرة التي لم تقابل تايلر بعد قائمة من نقاط أربع حوّلها تايلر بعد سبع عشرة سنة إلى أربعة أسئلة. هذه الأسئلة الأربعة كانت خطوات أربع، وليست أسئلة، ذكرتها هيلدا تابا في إصداراتها الني نُشرت في الأعوام 1926، 1932، و 1945 . كانت بحسب ما وثّقته تابا في هذه الإصدارات نتيجة جهد مشترك وليس نتاج فكر شخص واحد كما حاول تايلر إيهام قرّاء كتابه بذلك وحقّق بعدها تلك الشهرة التي جعلت من كتابه الدستور الرسمي للمناهج.
إذن، ليست هيلدا تابا مؤلفة مشتركة مع تايلر في وضع هذا النموذج الشهير الذي سيطر على نظرية المنهج وما يزال، بل إنها أول من ذكر هذا النموذج لكن ربما، بحسب اعتقاد كاتب هذه السطور، يتحمّل المنهج الخفي مسؤولية ذلك خاصة إذا عرفنا أن هيلدا تابا كانت مهاجرة من دولة فقيرة في أوروبا وعاشت في أمريكا التي كانت تعاني آنذاك من التمييز العنصري ضد السود والأجانب. في مثل هذه الظروف الصعبة وظروف الحاجة إلى خدمات الراعي الرسمي لها، رالف تايلر، والذي تدخّل لدى سلطات الهجرة الأمريكية لتجديد تأشيرتها والبقاء في أمريكا، لم تجد هيلدا تابا الإنصاف والاعتراف بحقوقها الأدبية التي ضاعت بين بطون كتب المنهج التي مازالت تردد اسطوانة رالف تايلر في كتابه الذي لم يتضمن أي إشارة إلى مرجع سابق، فضلاً عن هيلدا تابا التي لم تجد كلماتها في كتابها الآنف الذكر أي صدى.
من وجهة نظر شخصية، يعتقد كاتب هذه السطور أن الفلسفة السلوكية التي يعتقد بها رالف تايلور وكانت في بداية ازدهارها ذلك الوقت هي من أثّرت في الاتجاه الذي أخذه تايلر ضد الاعتراف بحق هيلدا تابا في النموذج الذي عُرف به. هذه الفلسفة تحاول السيطرة على الواقع من خلال التحكّم بالظروف الخارجية وفرض شروطهم على ضحايا بحوثهم التجريبية وعدم قبول أي تدخلات أو آراء أخرى تعترض طريقهم.
عرف العرب قديماً السلوكية ، قبل جامعات أوروبا وأمريكا وقبل أن يعرفها بافلوف أو واتسون أو سكنر، من خلال الصقر أو كلب الصيد (السلوقي) في رحلات القنص التي يقومون بها في صحراء الجزيرة العربية لكنهم لم يكتبوها كنظرية ويحفظوها في بطون الكتب. تركوا ذلك لـ (السلوكي) رالف تايلر الذي لم يكن وفيّاً مع المسكينة هيلدا تابا.
]1[ Taba, Hilda. 1962. Curriculum Development: Theory and Practice. New York: Harcourt, Brace & World, Inc.
]2[ Tyler, Ralph W. 1949. Basic Principles of Curriculum and Instruction.Chicago: University of Chicago Press.
[3]دول، ويليام. (2016). المنهج في عصر ما بعد الحداثة. الرياض: دار العبيكان للنشر.
[4] Pinar, William F. 2013, May. Plagiarism and the Tyler Rationale. Journal of the American Association for the Advancement of Curriculum Studies 9 (1), 1-13
]5[ Kridel, Craig, and Robert V. Bullough, Jr. 2007. Stories of the Eight-Year Study: Reexamining Secondary Education in America. Foreword by John I. Goodlad. Albany: State University of New York Press.
]6[ Taba, Hilda 1932. The Dynamics of Education. A Methodology of Progressive Educational Thought. [With a foreword by William Heard Kilpatrick.] New York: Harcourt, Brace and Company.
مقال رائع جدددداً استمتعت بقرأته
شكراً جزيلاً ..
مقال أكثر من رائع ..
سلمت أناملك ياد/ خالد.
سطور تكتب بمداد ذهب ..ويبقى السؤال: هل المنظرين في المنهج يراعون سياق ولادة نظرياته؟
شكراً دكتور خالد أخذتنا برحلة علمية ملؤها مشاعر
عرف العرب السلوكية مذ استخدموا (السلوقي) في الصيد
وتركو تدوينها كنظية (للسلوكي) تايلر!!